كانت ليلة من الليالي التي غاب عنها البدر، حيث خلا بنفسه يحدثها وتحدثه ويسألها وتسأله، يجيبها حينًا وتردّ عليه أحيانًا... إلى أن همست في أذنه بفكرة وإنصرفت...
تركَتْه وحيدًا يقلِّب الفكرة ويدوّرها، والليل الدامس يلفّه بكساء الظلام من كل جانب، والعتمة قد أخذت تتسلل إلى فؤاده بهدوء قاتل... أأقولها؟! أأُعلنها؟! أأُفتي بها؟!... إلى أن وصل به الأمر إلى القرار...
وما إن إنبلج الصبح وطلع النهار حتى كان له من القول الدمار... فهل غَشِي قلبَه من حُلكة السواد نكتةٌ معتمة أزاحت الأنوار التي كانت متلألئة في قلبه دهرًا من الزمن؟!
هل إستطاعت أن تخترق كل تلك الحصون التي ما زال دأبه يبنيها منذ أعوام؟! وأن ترمي به إلى المهالك وإلى المراءة في الأحكام؟!
حقًا إنها لمحنة عظيمة وإبتلاءات متوالية متتالية تُرمى في طريق العلماء والدعاة والقادة، فنحن اليوم نعيش في زمن الفتن بكل أشكالها وألوانها، وتطالعنا مع كل إشراقة شمس ضبابات كثيفة من الزيف والخداع والنفاق محاوِلة أن تحجب النور عن أعيننا وأن تمنع حرارة الإيمان أن تحيي البلاد والعباد...أن تتناسى قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
فكم من الذين حملوا الأمانة الكبرى؟ الأمانة التي تنوء الجبال من حملها، قد فرطوا فيها عند أول عقبة وعند أول إختبار وإمتحان؟! إنما أمانة الشهادة لهذا الدين ولأهله المدافعين عنه في زمن الفتن هذا الذي نعيش فيه لَهُو الزاد والعتاد، وهو القوة وبه الخَلاص، ولا يمكن أن تجد لِعالِمٍ مبررًا لكتمانه علمًا ما زال في صدره يَصول ويَجول وعلى لسانه يدور، فإذا ما جاء يوم القول كانت المقولة الزور!
إن أمانة الشهادة لهذا الدين تحتاج منا إلى ترجمة قولية وفعلية وإلى صبر وصمود...فماذا يضير العالِم بعد أن أفنى شبابه وعمره بين الكتب يرتشف منها حدّ الإرتواء ويتغذى من معانيها ألاّ تكون هذه الترجمة الحية مشاعرًا وسلوكًا؟! ماذا ينتظر؟! والدنيا تمضي لا تُبقي ولا تَذَر؟! نحن اليوم نتنقل في حديقة ملئت بشتى الأنواع من الأزهار والنباتات، فتحتار أيها تختار؟! فإحذر وإنتبه وتيقظ! فلا يعجبك من الورد منظره، فليس كل الزهر له عطر وشَذا... ولا تنفر من الشَّوْك، فليس كل الشوك أذى... فرُبّ كلمة منّمقة قيلت هوى صاحبها وأضل بها وغوى...أما كلمة الحق فلا تقبل بغير ما يأمر الله وينهى...
فيا أيها العلماء... ويا أيها النُّجباء... إنما هي أمانة الشهادة للحق التي لا تقبل المساومة ولا تقبل المداهنة، فمَن أفتى بغير علم فليتبوأ مقعده من النار، فكيف بمن سرى العلم في دمه يُفتي بما يحمل للأمة الخراب والدمار؟! إستيقظوا وإستفيقوا من غفلتكم قبل أن تلتفّ الفُتيا حول رقابكم وتدور الرحى دَورتها، فإذا أنتم قد إرتحلتم وبين يدي مولاكم وقفتم والسؤال قد سئلتم: بماذا حكمتم وبماذا أفتيتم؟! فهلاّ أعددتم للسؤال الجواب؟!.
بقلم: ميمونة شرقية.
المصدر: موقع منبر الداعيات.